مؤسسة الفكر العربي , د. وهيبة الفارع, الندوة الثانية: العولمة والتكنولوجيا والبحث العلمي
تعقيب على أوراق عمل جلسة الإطار المرجعي: نحو منظومة قيميّة للتعليم والعمل
ربط التعليم بالعمل يعني الإلمام بمفهوم ومتطلّبات التمّيز في الأداء بإضافة مهارات مكتسبة إلى مفاهيم تنمية العمل واحترامه كقيمة إنسانية في نظمنا التعليمية، و يقتضي ذلك الربط بين التعليم والتنمية البشرية والمجتمعية. فقد بدأ الجميع يدرك أن استثمار التعليم في الإنسان، سيعود عليه في شكلّ تنمية بشرية حقيقية تضيف إلى رصيده المعرفي خبرات ومهارات، جميعها بحاجة إلى هدف وغاية وبدونها يستحيل أن تكتمّل الشخصية الإنسانية.
والإنسان بحاجة دائمة إلى اختبار قيم التعليم المقصود وغير المقصود بما تحقّق له من ضوابط وبما أتيح له من فرص لتنمية العقل البشري وتطوير إنجازاته كقيم التكافؤ والارتباط المجتمعي والتناغم مع الاحتياجات النفسية والمجتمعية للمتعلمين.
التفاصيل
تعقيب على أوراق العمل المقدمة في جلسة الإطار المرجعي: نحو منظومة قيمية للتعليم والعمل
أ.د. وهيبة فارع
والإنسان بحاجة دائمة إلى اختبار قيم التعليم المقصود وغير المقصود بما تحقّق له من ضوابط وبما أتيح له من فرص لتنمية العقل البشري وتطوير إنجازاته كقيم التكافؤ والارتباط المجتمعي والتناغم مع الاحتياجات النفسية والمجتمعية للمتعلمين.
وقد مثّل "المؤتمّر العالمي حول التربية للجميع 1990 تحت شعار "سدّ حاجات التربية الأساسية" حدثاً تاريخياً أقرّ حقّ كلّ فرد في التربية، وحدّد لذلك خمسة مبادئ أساسية، تمّثلت في إقرار: سدّ الحاجات التعليمية الأساسية للجميع باعتبارها حاجات أساسية ، وإتاحة مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة لتكون تربية أساسية ذات جودة حسنة ومتاحة للجميع من دون استثناء البنين والبنات، شباناً وشابات، رجالاً ونساء، واتخاذ إجراءات من أجل القضاء على التفاوتات والتي تتسبب في حرمان أعداد واسعة من حق التمّتع بنعمة التربية، واكتساب العلم والمعرفة : كعنصر هام للإسهام في التنمية البشرية والتقدّم الاجتماعي والاقتصادي وتحصيل مهارات الاستدلال والبرهنة والقيم التي تشبع حاجات المتعلّم وتوسيع مجال الخدمات التربوية الأساسية لكلّ المجتمعات الحضرية والريفية والنائية.
هذه المبادئ الخمسة انعكست على السياسات التربوية والمخطّطات التنموية الوطنية في البرامج التربوية في العالم، فمنذ عهد أفلاطون وأرسطو، تمّ الإقرار بأهمية دور المدرسة والمنهاج في إحداث التغيير في المجتمع. ونظراً لكون هذين العاملين يلعبان دوراً محفزاً للتنافس فإنهما يتعرضان للحملات الآنتقادية عندما تحدث اختلالات وعيوب في النظام التربوي في أيّ مجتمع. وهنا يبدأ التساؤل حول أيّ مدى يقوم المنهاج: بدمج ثقافة البيئة، و دعم التطوّر الفردي والإنجاز العلمي مع إعطائه الأهمية اللازمة للتقدم الوطني ؟ وهل يراعي الفوارق الاجتماعية وثقافة النوع، والمكانة الاجتماعية الاقتصادية، والأقليات العرقية، ويتيح فرص التعليم للجميع ؟ وهل يهيئ للتعلم مدى الحياة ؟ و يهيئ لحياة منتجة تتيح المواجهة لتحديات عالم متغيّر يدعم الطموحات الفردية، ويسعى في الوقت نفسه نحو بناء الوحدة الوطنية، ويراعي التغيّر وعادات المجتمع وقيمه الإنسانية؟
والقيم الإنسانية لاتعرف حدوداً ولا تعني مجتمعات دون أخرى بحكم تنوعّ الثقافات والمعتقدات، فالقيم جزء من العملية المجتمعة، لا تنمو من دونها وتتصدّر أهدافها التعليمية وإن كنّا لا نستطيع قياسها بالوزن أو بالحجم لأنها من العناصر الفلسفية التي لاتخضع للقياس لكننا نتعامل معها بما تتركه من آثار مادية ومعنوية، فالأخلاق قيمة مثلاً لا نشعر بها إلا عندما تتحوّل إلى سلوك يمكن تمّييزه سلباً ام إيجاباً، ولا ندرك حجمها الحقيقي إلا بمقدار ما تتركه من أثر على حياتنا الاجتماعية مثلها مثل قيم الخير والعدل، كذلك الحال مع قيم العمل التي لا تدرك إلا عندما تتحوّل إلى إنتاج او إلى تطوّر مادي يمكن قياسه بمدى الدقة والجودة في مجتمع منتج أو مجتمع استهلاكي.
من هنا فإن المنظومة القيمية منظومة مشتقة من أهداف المجتمع وعاداته ومعتقداته لكنها غائبة في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية عموماً عن نظمها التعليمية لأننا لم نلحظ حتى الآن توجه مجتمعاتنا نحو العمل على الرغم من أننا مجتمع في عقيدته يقدّس العمل لكنه مجتمع يميل إلى خزن المعارف دون استخدام ، ويميل إلى التقليد الناتج عن ثقافة الإحساس بالتقزم أمام مجتمعات الصناعة والتكنولوجيا تحولنا في الغالب إلى اعلاء قيم الاستهلاك وانعكس ذلك سلبا بقصد أم من دون قصد على ثقاتنا التربوية.
· لا يمكن التأكيد على أن نظمنا التربوية العربية ومناهجها استطاعت أن تكوّن لها رصيداً في تقدير الذات واحترام قيم العمل فهل تضمن القيم الأخلاقية وحدها أن تقدم تعليماً منتجاً ؟ وهل أسسنا فعلاً لقيم العمل في التعليم في مجتمعات الدين فيها أساس الحياة والعدل أساس الحكم والاخلاق أساس الحياة الكريمة، الإجابة عن هذا السؤال قطعاً ستكون سلبية نزولا عند بعض الملاحظات فقط التي يمكن إيرادها.
وقد ضرب الرسول(ص) وخلفاؤه أروع الأمثلة في الجدّ وممارسة العمل والنزول إلى ميدان الحياة، فلم يستخفوا بالعمل ولم يحتقروا العاملين، بل كرّموا العمل والعاملين واستنكروا الخمول والاتكالية والكسل، لأن العمل في عرف الإسلام هو بذل الجهد من أجل إشباع حاجة إنسانية محللة، وهو ضروب العبادة وتحقيق إرادة الله وحكمته في الأرض والسعي لبناء الحياة وفق مشيئته تبارك وتعإلى. وهو لا يفرّق في ذلك بين ذكر وأنثى ومع ذلك ظلت المراة العربية بعيدة عن هذه المعاني السامية.
ولكي يحقق الإسلام فكرته هذه جعل إشباع الحاجات الشخصية واجبة من حيث الأساس على الإنسان نفسه. وقد حفظ لنا التاريخ شواهد لا تحصى قبسات من المواقف والنصوص الإسلامية التي تشرح رأي الإسلام في العمل والإنتاج، وتحارب الكسل والخمول والاتكالية التي تقود الأمم إلى السقوط والآنحلال لكننا مع ذلك نستشرف أن المجتمعات العربية لاتستطيع أن تستقل بتوفير احتياجاتها الأساسية على الأقل فانعكس ذلك على مانراه من بناء شخصية تابعة ومستهلكة .
مكانة الإنسان العربي في سلم الغايات:
ما الشروط التي تجعل العالم الإسلامي والعربي قادراً على أداء دوره في الزمان والمكان من خلال دوره في تحديد قيم الذوق وقيم الوجدان وقيم العمل؟ هل نستطيع أن نحقق ذلك ونحن في حال من الفوضى التربوية وعدم الانسجام في تصورنا لمناهجنا وتصورنا للعمل كقيمة وهو منعدم ضمن حضارتنا الجديدة وبين نخبنا الاستهلاكية
لكي نفهم ذلك فلننظر ما فعلت أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. عندما استعادت شروط الدور ودقة الأداء كمعيار أخلاقي وعملي وحررت فكرها من تحقير العمل اليدوي ولم تتّجه للنمط الاستهلاكي إلا بعد أن تحقّق لها الكثير من النمّو.
وفي عرض وتشخيص المشكلات، بل والتحديات، التي تقف في وجه تحوّل التعليم العربي إلى تعليم فاعل في المجتمع، فإن السؤال الذي يلوح في الأفق هو, هل يوجد تعليم عربي يؤسّس على قيم العمل والإنتاج؟ وإذا وجد فأين هو؟ وهل تقدّم الدراسات اليوم بحوثاً في هذا الاتجاه، أو هي مجرد حديث عن رؤى يجهلها حتى العاملون في هذا المجال؟ فكلّنا يعلم أن المجتمع العربي مجتمع تتجاذبه قيم التراث والحداثة، ومن الصعب أن نتمكّن من تحديد هذه الرؤى في ظلّ الفجوة الفكرية التي تحدّد بين ما نطمح إليه وما هو قائم فعلاً ... أين هي التجربة العربية التي جمعت بين التعليم والتنمية وقدّمت نموذجاً إقليمياً يمكن الارتكاز عليه؟ ألم نكن طوال أكثر من قرن من الاستقلال والدعوات التحررية مجرد مستهلكين حتى في أكثر الدول العربية غناء وثروة؟
لا صلاح للتعليم إلا بإحداث تغييرات جذرية في بناء هيكلّ التعليم واعتماد خطة الإصلاح القائمة على تنمية مختلف المهارات للمتعلم والاهتمّام بإعداد المعلم وتكثيف الآنفاق على التعليم. حينما ندقق النظر نتأكد أن التعليم في الوطن العربي متدنٍّ وللتدني مؤشرات عديدة... تتلخص في نسبة الأمية بين الكبار، خصوصاً بين الإناث، فمتوسط عدد السنوات التي يقضيها مواطن عربي في سنّ الإنتاج في تعليم منظّم لا تزيد على 5 سنوات، مقابل 13 سنة في الدول الصناعية على الرغم من الجهود التي تمّ بذلها في السنوات الأخيرة في الوطن العربي. ولو أخذنا متوسط عدد الحاصلين على شهادات جامعية في قوة العمل فسنجد أن نسبتهم لا تزيد على 7% من مجموع العاملين في الوطن العربي، أما ما ينفق على البحوث العلمية فلا يتعدى 0.5% من جملة الدخل القومي العربي العام، فكيف ننهي هذا الوضع الخاطىء؟
يمكن القول: إن مسألة القيم المعرفية والعملية انفصلت عن إعداد الإنسان العربي، فعملية التلقين بالمعلومات مسألة رخيصة نسبياً في إنتاجها، أما التكوين العام للمواطن فإن تكلّفته أكبر، فإذا كنّا نريد تأسيس قيم العمل التي تحوي القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية فذلك يكلّف الكثير لأننا أساساً غير مستعدين لها . للأسف في مجتمعاتنا ارتبط التعليم بالشهادة التي تمّنح عملاً، من دون أن يرتبط ذلك بالآنتاج أو بقيم البذل والتضحية الغائبة عن مناهجنا. وتعليمنا فعلياً لا يؤمن إطلاقاً بالعمل الجماعي وعاداته وقيمه وينحصر بالجوانب المعرفية مهملاً الجوانب الأخرى البدنية والروحية والاجتماعية.
أ.د. وهيبة فارع
وزيرة حقوق الإنسان السابق
رئيسة المعهد الوطني للعلوم الإدارية
ربط التعليم بالعمل يعني الإلمام بمفهوم ومتطلّبات التمّيز في الأداء بإضافة مهارات مكتسبة إلى مفاهيم تنمية العمل واحترامه كقيمة إنسانية في نظمنا التعليمية، و يقتضي ذلك الربط بين التعليم والتنمية البشرية والمجتمعية. فقد بدأ الجميع يدرك أن استثمار التعليم في الإنسان، سيعود عليه في شكلّ تنمية بشرية حقيقية تضيف إلى رصيده المعرفي خبرات ومهارات، جميعها بحاجة إلى هدف وغاية وبدونها يستحيل أن تكتمّل الشخصية الإنسانية.والإنسان بحاجة دائمة إلى اختبار قيم التعليم المقصود وغير المقصود بما تحقّق له من ضوابط وبما أتيح له من فرص لتنمية العقل البشري وتطوير إنجازاته كقيم التكافؤ والارتباط المجتمعي والتناغم مع الاحتياجات النفسية والمجتمعية للمتعلمين.
وقد مثّل "المؤتمّر العالمي حول التربية للجميع 1990 تحت شعار "سدّ حاجات التربية الأساسية" حدثاً تاريخياً أقرّ حقّ كلّ فرد في التربية، وحدّد لذلك خمسة مبادئ أساسية، تمّثلت في إقرار: سدّ الحاجات التعليمية الأساسية للجميع باعتبارها حاجات أساسية ، وإتاحة مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة لتكون تربية أساسية ذات جودة حسنة ومتاحة للجميع من دون استثناء البنين والبنات، شباناً وشابات، رجالاً ونساء، واتخاذ إجراءات من أجل القضاء على التفاوتات والتي تتسبب في حرمان أعداد واسعة من حق التمّتع بنعمة التربية، واكتساب العلم والمعرفة : كعنصر هام للإسهام في التنمية البشرية والتقدّم الاجتماعي والاقتصادي وتحصيل مهارات الاستدلال والبرهنة والقيم التي تشبع حاجات المتعلّم وتوسيع مجال الخدمات التربوية الأساسية لكلّ المجتمعات الحضرية والريفية والنائية.
هذه المبادئ الخمسة انعكست على السياسات التربوية والمخطّطات التنموية الوطنية في البرامج التربوية في العالم، فمنذ عهد أفلاطون وأرسطو، تمّ الإقرار بأهمية دور المدرسة والمنهاج في إحداث التغيير في المجتمع. ونظراً لكون هذين العاملين يلعبان دوراً محفزاً للتنافس فإنهما يتعرضان للحملات الآنتقادية عندما تحدث اختلالات وعيوب في النظام التربوي في أيّ مجتمع. وهنا يبدأ التساؤل حول أيّ مدى يقوم المنهاج: بدمج ثقافة البيئة، و دعم التطوّر الفردي والإنجاز العلمي مع إعطائه الأهمية اللازمة للتقدم الوطني ؟ وهل يراعي الفوارق الاجتماعية وثقافة النوع، والمكانة الاجتماعية الاقتصادية، والأقليات العرقية، ويتيح فرص التعليم للجميع ؟ وهل يهيئ للتعلم مدى الحياة ؟ و يهيئ لحياة منتجة تتيح المواجهة لتحديات عالم متغيّر يدعم الطموحات الفردية، ويسعى في الوقت نفسه نحو بناء الوحدة الوطنية، ويراعي التغيّر وعادات المجتمع وقيمه الإنسانية؟
والقيم الإنسانية لاتعرف حدوداً ولا تعني مجتمعات دون أخرى بحكم تنوعّ الثقافات والمعتقدات، فالقيم جزء من العملية المجتمعة، لا تنمو من دونها وتتصدّر أهدافها التعليمية وإن كنّا لا نستطيع قياسها بالوزن أو بالحجم لأنها من العناصر الفلسفية التي لاتخضع للقياس لكننا نتعامل معها بما تتركه من آثار مادية ومعنوية، فالأخلاق قيمة مثلاً لا نشعر بها إلا عندما تتحوّل إلى سلوك يمكن تمّييزه سلباً ام إيجاباً، ولا ندرك حجمها الحقيقي إلا بمقدار ما تتركه من أثر على حياتنا الاجتماعية مثلها مثل قيم الخير والعدل، كذلك الحال مع قيم العمل التي لا تدرك إلا عندما تتحوّل إلى إنتاج او إلى تطوّر مادي يمكن قياسه بمدى الدقة والجودة في مجتمع منتج أو مجتمع استهلاكي.
من هنا فإن المنظومة القيمية منظومة مشتقة من أهداف المجتمع وعاداته ومعتقداته لكنها غائبة في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية عموماً عن نظمها التعليمية لأننا لم نلحظ حتى الآن توجه مجتمعاتنا نحو العمل على الرغم من أننا مجتمع في عقيدته يقدّس العمل لكنه مجتمع يميل إلى خزن المعارف دون استخدام ، ويميل إلى التقليد الناتج عن ثقافة الإحساس بالتقزم أمام مجتمعات الصناعة والتكنولوجيا تحولنا في الغالب إلى اعلاء قيم الاستهلاك وانعكس ذلك سلبا بقصد أم من دون قصد على ثقاتنا التربوية.
· لا يمكن التأكيد على أن نظمنا التربوية العربية ومناهجها استطاعت أن تكوّن لها رصيداً في تقدير الذات واحترام قيم العمل فهل تضمن القيم الأخلاقية وحدها أن تقدم تعليماً منتجاً ؟ وهل أسسنا فعلاً لقيم العمل في التعليم في مجتمعات الدين فيها أساس الحياة والعدل أساس الحكم والاخلاق أساس الحياة الكريمة، الإجابة عن هذا السؤال قطعاً ستكون سلبية نزولا عند بعض الملاحظات فقط التي يمكن إيرادها.
· لا يتوقف ديننا الإسلامي عن الحثّ على العمل والإنتاج فهل ربطنا ذلك بالمساواة وحقوق الإنسان؟
لقد قدّس الاسلام العمل وكرّم العاملين والمنتجين واعتبره شرفاً وجهاداً وصورة معبّرة عن ذات الإنسان واستعداداته، فبالعمل يؤدي الإنسان رسالته الإعمارية في هذه الأرض، والعمل يتطابق مع دعوة القرآن إلى الإعمار والإصلاح في هذه الارض. وانطلاقاً من هذه الدعوة، راح الإسلام يحثّ على العمل ويحارب الكسل والاتكالية ويدعو إلى الجد وبذل الجهد من أجل تحصيل الرزق والانتفاع بطيبات الحياة وإعمار الأرض وإصلاحها.وقد ضرب الرسول(ص) وخلفاؤه أروع الأمثلة في الجدّ وممارسة العمل والنزول إلى ميدان الحياة، فلم يستخفوا بالعمل ولم يحتقروا العاملين، بل كرّموا العمل والعاملين واستنكروا الخمول والاتكالية والكسل، لأن العمل في عرف الإسلام هو بذل الجهد من أجل إشباع حاجة إنسانية محللة، وهو ضروب العبادة وتحقيق إرادة الله وحكمته في الأرض والسعي لبناء الحياة وفق مشيئته تبارك وتعإلى. وهو لا يفرّق في ذلك بين ذكر وأنثى ومع ذلك ظلت المراة العربية بعيدة عن هذه المعاني السامية.
ولكي يحقق الإسلام فكرته هذه جعل إشباع الحاجات الشخصية واجبة من حيث الأساس على الإنسان نفسه. وقد حفظ لنا التاريخ شواهد لا تحصى قبسات من المواقف والنصوص الإسلامية التي تشرح رأي الإسلام في العمل والإنتاج، وتحارب الكسل والخمول والاتكالية التي تقود الأمم إلى السقوط والآنحلال لكننا مع ذلك نستشرف أن المجتمعات العربية لاتستطيع أن تستقل بتوفير احتياجاتها الأساسية على الأقل فانعكس ذلك على مانراه من بناء شخصية تابعة ومستهلكة .
· لا تعدّ شروط النجاح في التعليم شروطاً في العمل الحقيقي؟ هذا هو الموضوع الذي نرفض طرحه والإجابة عنه متجنبين طلب شروط النجاح ومكتفين باتهام أنظمة التعليم بأنها وراء سبب رفضنا لقيم العمل وبأنها وحدها المسؤؤلة عن إيجاد شخصية عربية عاجزة ومحبطة.
أما إذا طرحنا السؤال هل شروط العمل مرتبطة بشروط النجاح، فأننا سندرك أن أول هذه الشروط يقتضي فهم الأولويات التنموية التي تفرضها حال المجتمعات العربية بأبعادها المرتبطة بأصناف القيم في العلاقات التبادلية في مجال تحديد القيم الإنسانية وتحديد القيم الاقتصادية وتحديد القيم النظرية وتحديد القيم العملية، هذه الشروط تندرج تحت مفاهيم يمكن تصنيفها في محورين أساسيين هما :مكانة الإنسان العربي في سلم الغايات:
ما الشروط التي تجعل العالم الإسلامي والعربي قادراً على أداء دوره في الزمان والمكان من خلال دوره في تحديد قيم الذوق وقيم الوجدان وقيم العمل؟ هل نستطيع أن نحقق ذلك ونحن في حال من الفوضى التربوية وعدم الانسجام في تصورنا لمناهجنا وتصورنا للعمل كقيمة وهو منعدم ضمن حضارتنا الجديدة وبين نخبنا الاستهلاكية
مكانة الإنسان العربي في سلم الأدوات:
وما الشروط التي تجعل العالم الإسلامي قادراً على أداء دوره في المكان والزمان من خلال دوره في تحديد قيم الرزق وقيم العمل؟ هل نستطيع أن نحقق ذلك ونحن في حال من الفوضى وعدم الآنسجام في تصّور الجغرافيا الاقتصادية الدولية ومكانة الجغرافيا الاقتصادية العربية؟ ماذا نفعل لتحقيق قيم العمل وهو منعدم بيننا في الجماعة وفي الأسرة وهي أخطر وحدة تربوية.لكي نفهم ذلك فلننظر ما فعلت أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. عندما استعادت شروط الدور ودقة الأداء كمعيار أخلاقي وعملي وحررت فكرها من تحقير العمل اليدوي ولم تتّجه للنمط الاستهلاكي إلا بعد أن تحقّق لها الكثير من النمّو.
· لا توجد تنمية من دون إنسان، فكيف تقوم تنمية في غياب الإنسان العربي عن التنمية؟»
- أساليب الحياة العربية الثلاثة: البداوة والريفية والحضرية، وجميعها تعبّر عن عقليات مختلفة تحدّد السلوك الاجتماعي والسياسي، وكذلك الحال بالنسبة إلى مسألة التعليم والتنشئة المهنية وقيم العمل، في ظلّ غياب واضح لتأثير المدرسة في حياة المجتمع وغياب البحوث التي تقيس مدخلات التعليم ومخرجاته وفاعلية الخريجين في سوق العمل.وفي عرض وتشخيص المشكلات، بل والتحديات، التي تقف في وجه تحوّل التعليم العربي إلى تعليم فاعل في المجتمع، فإن السؤال الذي يلوح في الأفق هو, هل يوجد تعليم عربي يؤسّس على قيم العمل والإنتاج؟ وإذا وجد فأين هو؟ وهل تقدّم الدراسات اليوم بحوثاً في هذا الاتجاه، أو هي مجرد حديث عن رؤى يجهلها حتى العاملون في هذا المجال؟ فكلّنا يعلم أن المجتمع العربي مجتمع تتجاذبه قيم التراث والحداثة، ومن الصعب أن نتمكّن من تحديد هذه الرؤى في ظلّ الفجوة الفكرية التي تحدّد بين ما نطمح إليه وما هو قائم فعلاً ... أين هي التجربة العربية التي جمعت بين التعليم والتنمية وقدّمت نموذجاً إقليمياً يمكن الارتكاز عليه؟ ألم نكن طوال أكثر من قرن من الاستقلال والدعوات التحررية مجرد مستهلكين حتى في أكثر الدول العربية غناء وثروة؟
· لا يمكن الجمع بين قيم العمل وأخلاقياته من دون إصلاح التعليم
لا صلاح للتعليم إلا بإحداث تغييرات جذرية في بناء هيكلّ التعليم واعتماد خطة الإصلاح القائمة على تنمية مختلف المهارات للمتعلم والاهتمّام بإعداد المعلم وتكثيف الآنفاق على التعليم. حينما ندقق النظر نتأكد أن التعليم في الوطن العربي متدنٍّ وللتدني مؤشرات عديدة... تتلخص في نسبة الأمية بين الكبار، خصوصاً بين الإناث، فمتوسط عدد السنوات التي يقضيها مواطن عربي في سنّ الإنتاج في تعليم منظّم لا تزيد على 5 سنوات، مقابل 13 سنة في الدول الصناعية على الرغم من الجهود التي تمّ بذلها في السنوات الأخيرة في الوطن العربي. ولو أخذنا متوسط عدد الحاصلين على شهادات جامعية في قوة العمل فسنجد أن نسبتهم لا تزيد على 7% من مجموع العاملين في الوطن العربي، أما ما ينفق على البحوث العلمية فلا يتعدى 0.5% من جملة الدخل القومي العربي العام، فكيف ننهي هذا الوضع الخاطىء؟
يمكن القول: إن مسألة القيم المعرفية والعملية انفصلت عن إعداد الإنسان العربي، فعملية التلقين بالمعلومات مسألة رخيصة نسبياً في إنتاجها، أما التكوين العام للمواطن فإن تكلّفته أكبر، فإذا كنّا نريد تأسيس قيم العمل التي تحوي القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية فذلك يكلّف الكثير لأننا أساساً غير مستعدين لها . للأسف في مجتمعاتنا ارتبط التعليم بالشهادة التي تمّنح عملاً، من دون أن يرتبط ذلك بالآنتاج أو بقيم البذل والتضحية الغائبة عن مناهجنا. وتعليمنا فعلياً لا يؤمن إطلاقاً بالعمل الجماعي وعاداته وقيمه وينحصر بالجوانب المعرفية مهملاً الجوانب الأخرى البدنية والروحية والاجتماعية.
· إذاً ما الخطوات الصحيحة لإصلاح ذلك؟
ينبغي على نظامنا التعليمي التركيز على جميع الجوانب التي تحتاج إلى إصلاح والتي تتضمّن أهمية موقع المدرس فيه والاهتمّام بتكافؤ الفرص فيه، هذا الإصلاح سينعكس على ما يقدمه للتلاميذ المؤثرين غداً في سوق العمل.. فتخصيص نسبة كبيرة من ميزانيتنا للإنفاق على التعليم كفيلة بزيادة إنتاجية التعليم لأننا عنئذ سنتجه نحو تطوير الجوانب العملية فيه.. وإذا كانت إحدى المشكلّات الرئيسة في نظامنا التعليمي العربي أن الخطط التعليمية ضبابية، لا يتمّ تنفيذ مطالبها بسبب قلة الاستثمارات في التعليم أو للخوف من الاستثمار فيه لأن مردوداته طويلة المدى، فإننا في جميع الحالات مضطرون إلى إعادة وضع هذه الخطط بطرق سليمة معتمدة على سيناريوهات البدائل، لأن التعليم أساسه صناعة وطنية قومية طويلة الأمد، تستفيد من منجزات الحضارة الإنسانية لتحسين إنتاجها الوطني القومي وتفترض المشاركة الشعبية فيه وفي تغطيته، مع الاهتمام بمناهج التعليم بالوطن العربي التي تعاني قصوراً شديداً أدّى إلى تكوين شخصية عربية مشوّهة. وأن نركّز على صناعة العلوم والمعرفة الإنسانية والاجتماعية ضمن أولويات تفرضها أزمات الواقع ومشكلّاته وتحدياته. وتساعدنا على إنتاج معرفة علمية تكنولوجية، وتوظيفها توظيفاً جيداً يستفيد من مصادرنا المادية وخصوصاً النفطية منها، حتى لا يتلخص عملنا في تنمية القدرات الاستهلاكية لتصبح جزءاً من ضرورات الحياة، وتؤدي إلى ترقية مستوى الاستهلاك، والتقليل من مخاطر الأمية، التي يعتقد البعض أن الزمن كفيل بها وبمضيّ السنوات تزداد نسبة الأمية ولا تتوقف. من هنا ينبغي أن نصلح التعليم جنباً إلى جنب مع إعادة صياغة القيم الأخلاقية التي تتبنّى العدالة في توزيع حصص المعرفة بين أفراد المجتمع، وخصوصاً بين الإناث اللواتي شكّلن بالفعل مربط الفرس في خلخلة الهيكلّ التعليمي ونظمه والتأثير على قيم العلم والعمل.